فصل: تفسير الآيات رقم (25- 30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة لقمان

مكية إلا آية وهي ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة‏}‏ فإن وجوبهما بالمدنية وهو ضعيف لأنه لا ينافي شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏ وهي أربع وثلاثون آية، وقيل ثلاث وثلاثون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏الم تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم‏}‏ سبق بيانه في «يونس»‏.‏

‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ‏}‏ حالان من الآيات والعامل فيهما معنى الإِشارة، ورفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر أو الخبر لمحذوف‏.‏

‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ بيان لإِحسانهم أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها وتكرير الضمير للتوكيد ولما حيل بينه وبين خبره‏.‏

‏{‏أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار بها والمضاحك وفضول الكلام، والإِضافة بمعنى من وهي تبينية إن أراد بالحديث المنكر وتبعيضية إن أراد به الأعم منه‏.‏ وقيل نزلت في النضر بن الحارث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشاً ويقول‏:‏ إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة‏.‏ وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإِسلام ومنعه عنه‏.‏ ‏{‏لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ دينه أو قراءة كتابه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بمعنى ليثبت على ضلاله ويزيد فيه‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن‏.‏ ‏{‏وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً‏}‏ ويتخذ السبيل سخرية، وقد نصبه حمزة والكسائي ويعقوب وحفص عطفاً على ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ لإِهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه‏.‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا ولى مُسْتَكْبِراً‏}‏ متكبراً لا يعبأ بها‏.‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ مشابهاً حاله حال من لم يسمعها‏.‏ ‏{‏كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً‏}‏ مشابهاً من في أذنيه ثقل لا يقدر أن يسمع، والأولى حال من المستكن في ‏{‏وَلِىُّ‏}‏ أو في ‏{‏مُسْتَكْبِراً‏}‏، والثانية بدل منها أو حال من المستكن في ‏{‏لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ ويجوز أن يكونا استئنافين، وقرأ نافع ‏{‏فِى أُذُنَيْهِ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أعلمه بأن العذاب يحيق به لا محالة وذكر البشارة على التهكم‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم‏}‏ أي لهم نعيم الجنات فعكس للمبالغة‏.‏

‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أو من ‏{‏جنات النعيم‏}‏ والعامل ما تعلق به اللام‏.‏ ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏ مصدران مؤكدان الأول لنفسه والثاني لغيره لأن قوله ‏{‏لَهُمْ جنات‏}‏ وعد وليس كل وعد حقاً‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏‏.‏ الذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجاز وعده ووعيده‏.‏

‏{‏الحكيم‏}‏ الذي لا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته‏.‏

‏{‏خَلقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ قد سبق في «الرعد»‏.‏ ‏{‏وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً شوامخ‏.‏ ‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ كراهة أن تميد بكم، فإن تشابه أجزائها يقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز ووضع معينين‏.‏ ‏{‏وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ من كل صنف كثير المنفعة وكأنه استدل بذلك على عزته التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هي كمال العلم، ومهد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله‏:‏

‏{‏هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ‏}‏ هذا الذي ذكر مخلوقه فماذا خلق آلهتكم حتى استحقوا مشاركته، و‏{‏مَاذَا‏}‏ نصب ب ‏{‏خلقَ‏}‏ أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا بصلته ‏{‏فَأَرُونِى‏}‏ معلق عنه‏.‏ ‏{‏بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على ناظر، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة‏}‏ يعني لقمان بن باعوراء من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته، وعاش حتى أدرك داود عليه الصلاة والسلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه، والجمهور على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً‏.‏ والحكمة في عرف العلماء‏:‏ استكمال النفس الإِنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها‏.‏ ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال‏:‏ نعم لبوس الحرب أنت فقال‏:‏ الصمت حكم وقليل فاعله، وأن داود عليه السلام قال له يوماً كيف أصبحت فقال أصبحت في يدي غيري، فتفكر داود فيه فصعق صعقة‏.‏ وأنه أمره بأن يذبح شاة ويأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب، ثم بعد أيام أمره بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضاً فسأله عن ذلك فقال‏:‏ هما أطيب شيء إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا‏.‏ ‏{‏أَنِ اشكر للَّهِ‏}‏ لأن أشكر أو أي أشكر فإن إيتاء الحكمة في معنى القول‏.‏ ‏{‏وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ لأن نفعه عائد إليها وهو دوام النعمة واستحقاق مزيدها‏.‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ‏}‏ لا يحتاج إلى الشكر‏.‏ ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ حقيق بالحمد وإن لم يحمد، أو محمود ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ‏}‏ أنعم أو أشكم أو ما ثان‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يَعِظُهُ يابنى‏}‏ تصغير إشفاق، وقرأ ابن كثير هنا وفي ‏{‏يابنى أَقِمِ الصلاة‏}‏ بإسكان الياء، وحفص فيهما وفي ‏{‏يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ‏}‏ بفتح الياء ومثله البزي في الأخير وقرأ الباقون في الثلاثة بكسر الياء‏.‏ ‏{‏لاَ تُشْرِكْ بالله‏}‏ قيل كان كافراً فلم يزل به حتى أسلم، ومن وقف على ‏{‏لاَ تُشْرِكْ‏}‏ جعل بالله قسماً‏.‏ ‏{‏إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه‏.‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً‏}‏ ذات وهن أو تهن وهنا ‏{‏على وَهْنٍ‏}‏ أي تضعف ضعفاً فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال، وقرئ بالتحريك يقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا‏.‏ ‏{‏وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ‏}‏ وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة، وقرئ «وفصله في عامين» وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان‏.‏ ‏{‏أَنِ اشكر لِى ولوالديك‏}‏ تفسير ل ‏{‏وَصَّيْنَا‏}‏ أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصاً ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام لمن قال مَنْ أُبِرّ ‏"‏ أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك ‏"‏

‏{‏إِلَىَّ المصير‏}‏ فأحاسبك على شكرك وكفرك‏.‏

‏{‏وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ باستحقاقه الإِشراك تقليداً لهما، وقيل أراد بنفي العلم به نفيه‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُطِعْهُمَا‏}‏ في ذلك‏.‏ ‏{‏وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً‏}‏ صحاباً معروفاً يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم‏.‏ ‏{‏واتبع‏}‏ في الدين ‏{‏سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ‏}‏ بالتوحيد والإِخلاص في الطاعة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ مرجعك ومرجعهما‏.‏ ‏{‏فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بأن أجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال‏:‏ وقد وصينا بمثل ما وصى به، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإِشراك فما ظنك بغيرهما ‏(‏روي‏)‏ نزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثاً لم تطعم فيها شيئاً، ولذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي الله عنه فإنه أسلم بدعوته‏.‏

‏{‏يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ أي أن الخصلة من الإِحسان أو الإِساءة إن تك مثلاً في الصغر كحبة الخردل‏.‏ ورفع نافع ‏{‏مِثْقَالَ‏}‏ على أن الهاء ضمير القصة وكان تامة وتأنيثها لإِضافة المثقال إلى الحبة كقول الشاعر‏:‏

كما شرقت صدر القناة من الدم *** أو لأن المراد به الحسنة أو السيئة‏.‏ ‏{‏فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السموات أَوْ فِى الأرض‏}‏ في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرة أو أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض‏.‏ وقرئ بكسر الكاف من وكن الطائر إذا استقر في وكنته‏.‏ ‏{‏يَأْتِ بِهَا الله‏}‏ يحضرها فيحاسب عليها‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لَطِيفٌ‏}‏ يصل علمه إلى كل خفي‏.‏ ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ عالم بكنهه‏.‏

‏{‏يابنى أَقِمِ الصلاة‏}‏ تكميلاً لنفسك‏.‏ ‏{‏وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر‏}‏ تكِميلاً لغيرك‏.‏ ‏{‏واصبر على مَا أَصَابَكَ‏}‏ من الشدائد سيما في ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ إشارة إلى الصبر أو إلى كل ما أمر به‏.‏ ‏{‏مِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب مصدر أطلق للمفعول، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل من قوله ‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الأمر‏}‏ أي جد‏.‏

‏{‏وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏}‏ لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون من الصعر وهو داء يعتري البعير فيلوي عنقه‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «وَلاَ تصاعر»، وقرئ «وَلاَ تُصَعّرْ» والكل واحد مثل علاه وأعلاه وعالاه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا‏}‏ أي فرحاً مصدر وقع موقع الحال أي تمرح مرحاً أو لأجل المرح وهو البطر‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ علة للنهي وتأخير ال ‏{‏فَخُورٌ‏}‏ وهو مقابل للمصعر خده والمختال للماشي مرحاً لتوافق رؤوس الآي‏.‏

‏{‏واقصد فِى مَشْيِكَ‏}‏ توسط فيه بين الدبيب والإِسراع‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن ‏"‏، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما كان إذا مشى أسرع فالمراد ما فوق دبيب المتماوت، وقرئ بقطع الهمزة من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية‏.‏ ‏{‏واغضض مِن صَوْتِكَ‏}‏ وانقص منه واقصر‏.‏ ‏{‏إِنَّ أَنكَرَ الأصوات‏}‏ أوحشها‏.‏ ‏{‏لَصَوْتُ الحمير‏}‏ والحمار مثل في الذم سيما نهاقه ولذلك يكنى عنه فيقال طويل الأذنين، وفي تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الإِستعارة مبالغة شديدة وتوحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكير دون الآحاد أو لأنه مصدر في الأصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات‏}‏ بأن جعله أسباباً محصلة لمنافعكم‏.‏ ‏{‏وَمَا فِى الأرض‏}‏ بأن مكنكم من الإِنتفاع به بوسط أو غير وسط ‏{‏وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً‏}‏ محسوسة ومعقولة ما تعرفونه وما لا تعرفونه وقد مر شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة، وقرئ «وأصبغ» بالإبدال وهو جار في كل سين اجتمع من الغين أو الخاء أو القاف كصلخ وصقر، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص «نِعَمَهُ» بالجمع والإِضافة‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله‏}‏ في توحيده وصفاته‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ مستفاد من دليل‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُدًى‏}‏ راجع إلى رسول‏.‏ ‏{‏وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ‏}‏ أنزله الله بل بالتقليد كما قال‏:‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ وهو منع صريح من التقليد في الأصول‏.‏ ‏{‏أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ‏}‏ يحتمل أن يكون الضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ ولآبائهم‏.‏ ‏{‏إلى عَذَابِ السعير‏}‏ إلى ما يؤول إليه من التقليد أو الإِشراك وجواب محذوف مثل لاتبعوه، والإِستفهام للإنكار والتعجب‏.‏

‏{‏وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله‏}‏ بأن فوض أمره إليه وأقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون، ويؤيده القراءة بالتشديد وحيث عدى باللام فلتضمن معنى الإخلاص‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ في عمله‏.‏ ‏{‏فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ تعلق بأوثق ما يتعلق به، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه‏.‏ ‏{‏وإلى الله عاقبة الأمور‏}‏ إذ الكل صائر إليه‏.‏

‏{‏وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ‏}‏ فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة، وقرئ ‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ‏}‏ من أحزن وليس بمستفيض‏.‏ ‏{‏إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ في الدارين‏.‏ ‏{‏فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ بالإِهلاك والتعذيب‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ فمجازٍ عليه فضلاً عما في الظاهر‏.‏

‏{‏نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً‏}‏ تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإِحراق الضغط‏.‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذاعته‏.‏ ‏{‏قُلِ الحمد لِلَّهِ‏}‏ على إلزامهم والجائهم إلى الإِعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم‏.‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن ذلك يلزمهم‏.‏

‏{‏للَّهِ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ لا يستحق العبادة فيهما غيره ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الغنى‏}‏ عن حمد الحامدين‏.‏ ‏{‏الحميد‏}‏ المستحق للحمد وإن لم يحمد‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ‏}‏ ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً، وتوحيد ‏{‏شَجَرَةٍ‏}‏ لأن المراد تفصيل الآحاد‏.‏ ‏{‏والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ‏}‏ والبحر المحيط بسعته مداداً ممدوداً بسبعة أبحر، فأغنى عن ذكر المداد بمده لأنه من مد الدواة وأمدها، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها وبمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال، ونصبه البصريان بالعطف على اسم ‏{‏أَن‏}‏ أو إضمار فعل يفسره ‏{‏يَمُدُّهُ‏}‏، وقرئ «تمده» «ويمده» بالياء والتاء‏.‏

‏{‏مَّا نَفِدَتْ كلمات الله‏}‏ بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ لا يعجزه شيء‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يخرج عن علمه وحكمته أمر، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء‏.‏

‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ إلا كخلقها وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ يسمع كل مسموع ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الحق‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى‏}‏ كل من النيرين يجري في فلكه‏.‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر‏.‏ وقيل إلى يوم القيامة والفرق بينه وبين قوله ‏{‏لأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ أن ال ‏{‏أَجَلٌ‏}‏ ها هنا منتهى الجري وثمة غرضه حقيقة أو مجازاً وكلا المعنيين حاصل في الغايات‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ عالم بكنهه‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الذي ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها‏.‏ ‏{‏بِأَنَّ الله هُوَ الحق‏}‏ بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته، أو الثابت إلهيته‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل‏}‏ المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته، وقرأ البصريان والكوفيون غير أبي بكر بالياء‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير‏}‏ مترفع على كل شيء ومتسلط عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِى فِى البحر بِنِعْمَةِ الله‏}‏ بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمه وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال، وقرئ ‏{‏الفلك‏}‏ بالتثقيل و«بنعمات الله» بسكون العين، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون‏.‏ ‏{‏لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته‏}‏ دلائله‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ‏}‏ على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق والأنفس‏.‏ ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ يعرف النعم ويتعرف مانحها، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر‏.‏

‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُمْ‏}‏ علاهم وغطاهم‏.‏ ‏{‏مَّوْجٌ كالظلل‏}‏ كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما، وقرئ كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال‏.‏ د ‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏ مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار‏.‏ ‏{‏وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ‏}‏ غدار فإنه نقض للعهد الفطري، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر‏.‏ ‏{‏كَفُورٌ‏}‏ للنعم‏.‏

‏{‏يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ‏}‏ لاَ يقضي عنه، وقرئ «لا يجزئ» من أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزى فيه‏.‏ ‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ‏}‏ عطف على ‏{‏وَالِدٌ‏}‏ أو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً‏}‏ وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة‏.‏ ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بالثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏حَقّ‏}‏ لا يمكن خلفه‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور‏}‏ الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي‏.‏

‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ علم وقت قيامها‏.‏ لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ متى قيام الساعة‏؟‏ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر‏؟‏ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى‏؟‏ وما أعمل غداً وأين أموت‏؟‏ فنزلت‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ مفاتح الغيب خمس ‏"‏ وتلا هذه الآية‏.‏ ‏{‏وَيُنَزّلُ الغيث‏}‏ في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرحام‏}‏ أذكر أم أنثى أتام أم ناقص‏.‏ ‏{‏وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً‏}‏ من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه‏.‏ ‏{‏وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ كما لا تدري في أي وقت تموت‏.‏ روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه، فقال الرجل من هذا‏؟‏ قال‏:‏ ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك‏:‏ كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك»، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه، وقرئ «بأية أرض» وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في ‏{‏كُلُّهُنَّ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ‏}‏ يعلم الأشياء كلها‏.‏ ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها‏.‏

وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشراً عشراً بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر»‏.‏

سورة السجدة

مكية وآيها ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏الم‏}‏ إن جعل اسماً للسورة أو القرآن فمبتدأ خبره‏:‏

‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ على أن التنزيل بمعنى المنزل، وإن جعل تعديداً للحروف كان ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ فيكون‏.‏ ‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ حالاً من الضمير في ‏{‏فِيهِ‏}‏ لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ولا ‏{‏رَيْبَ فِيهِ‏}‏ حال من ‏{‏الكتاب‏}‏، أو اعتراض والضمير فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله‏:‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ فإنه تقرير له، ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولاً إلى إعجازه، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكاراً له وتعجيباً منه، فإن ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وبين المقصود من تنزيله فقال‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ‏}‏ إذا كانوا أهل الفترة‏.‏ ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ بإنذارك إياهم‏.‏

‏{‏الله الذى خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ مر بيانه في «الأعراف»‏.‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ‏}‏ ‏{‏مَا لَكُمْ‏}‏ إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم، أو ‏{‏مَا لَكُمْ‏}‏ سواه ولي ولا شفيع بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر، فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا ناصر‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ بمواعظ الله تعالى‏.‏

‏{‏يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض‏}‏ يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ ثم يصعد إليه ويثبت في علمه موجوداً‏.‏ ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ في برهة من الزمان متطاولة يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع‏.‏ وقيل يدبر الأمر بإظهاره في اللوح فينزل به الملك ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة، لأن مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة فإن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة‏.‏ وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر‏.‏ وقيل يدبر الأمر إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة‏.‏ وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلاً من السماء إلى الأرض بالوحي، ثم لا يعرج إليه خالصاً كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص، وقرئ «يَعْرُجُ» و«يَعْدُونَ»‏.‏

‏{‏ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة‏}‏ فيدبر أمرهما على وفق الحكمة‏.‏ ‏{‏العزيز‏}‏ الغالب على أمره‏.‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ على العباد في تدبيره، وفيه إيماء بأنه سبحانه يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً‏.‏

‏{‏الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَئ خَلَقَهُ‏}‏ خلقة موفراً عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة، وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته، و‏{‏خَلَقَهُ‏}‏ مفعول ثان‏.‏ وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل‏.‏ ‏{‏وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان‏}‏ يعني آدم‏.‏ ‏{‏مِن طِينٍ‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ‏}‏ ذريته سميت بذلك لأنها تنسل منه أي تنفصل‏.‏ ‏{‏مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ‏}‏ ممتهن‏.‏

‏{‏ثُمَّ سَوَّاهُ‏}‏ قَوَّمَّهُ بتصوير أعضائه على ما ينبغي‏.‏ ‏{‏وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ‏}‏ إضافة إلى نفسه تشريفاً له وإشعاراً بأنه خلق عجيب، وأن له شأناً له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفسه فقد عرف ربه‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ خصوصاً لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ تشكرون شكراً قليلاً‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض‏}‏ أي صرنا تراباً مخلوط بتراب الأرض لا نتميز منه، أو غبنا فيها‏.‏ وقرأ «ضَلَلْنَا» بالكسر من ضل يضل «وصللَنا‏}‏ من صل اللحم إذا أنتن، وقرأ ابن عامر «إذا» على الخبر والعامل فيه ما دل عليه‏.‏ ‏{‏أَئِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ وهو‏:‏ نبعث أو يجدد خلقنا‏.‏ وقرأ نافع والكسائي ويعقوب «أنا» على الخبر، والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به‏.‏ ‏{‏بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ‏}‏ بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده‏.‏ ‏{‏كافرون‏}‏ جاحدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يتوفاكم‏}‏ يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئاً ولا يبقي منكم أحداً، والتفعل والإِستفعال يلتقيان كثيراً كتقصيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته‏.‏ ‏{‏مَّلَكُ الموت الذى وُكّلَ بِكُمْ‏}‏ بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ للحساب والجزاء‏.‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ من الحياء والخزي‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ قائلين ربنا‏.‏ ‏{‏أبصارنا‏}‏ ما وعدتنا‏.‏ ‏{‏وَسَمِعْنَا‏}‏ منك تصديق رسلك‏.‏ ‏{‏فارجعنا‏}‏ إلى الدنيا‏.‏ ‏{‏نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ إذ لم يبق لنا شك بما شاهدنا، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف تقديره لرأيت أمراً فظيعاً، ويجوز أن تكون للتمني والمضي فيها وفي ‏{‏إِذْ‏}‏ لأن الثابت في علم الله بمنزلة الواقع، ولا يقدر ل ‏{‏تَرَى‏}‏ مفعول لأن المعنى لو يكون منك رؤية في هذا الوقت، أو يقدر ما دل عليه صلة إذا والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد‏.‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له‏.‏ ‏{‏ولكن حَقَّ القول مِنِّي‏}‏ ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ وذلك تصريح بعدم إيمانهم لعدم المشيئة المسبب عن سبق الحكم بأنهم من أهل النار، ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسبباً عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله‏:‏

‏{‏فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ فإنه من الوسائط والأسباب المقتضية له‏.‏ ‏{‏إِنَّا نسيناكم‏}‏ تركناكم من الرحمة، أو في العذاب ترك المنسي وفي استئنافه وبناء الفعل على أن واسمها تشديد في الانتقام منهم‏.‏ ‏{‏وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ كرر الأمر للتأكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السيئة من التكذيب والمعاصي كما علله بتركهم تدبر أمر العاقبة والتفكير فيها دلالة على أن كلاً منهما يقتضي ذلك‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا‏}‏ وعظوا بها‏.‏ ‏{‏خَرُّواْ سُجَّداً‏}‏ خوفاً من عذاب الله‏.‏ ‏{‏وَسَبَّحُواْ‏}‏ نزهوه عما لا يليق به كالعجز عن البعث‏.‏ ‏{‏بِحَمْدِ رَبّهِمْ‏}‏ حامدين له شكراً على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن الإِيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبراً‏.‏

‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ‏}‏ ترتفع وتتنحى‏.‏ ‏{‏عَنِ المضاجع‏}‏ الفرش ومواضع النوم‏.‏ ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ داعين إياه‏.‏ ‏{‏خَوْفًا‏}‏ من سخطه‏.‏ ‏{‏وَطَمَعًا‏}‏ في رحمته‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها «قيام العبد من الليل» وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء منادٍ ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم‏:‏ سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي‏:‏ ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي‏:‏ ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعاً إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس»

وقيل كان أناس من الصحابة يصلون من المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم‏.‏ ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ في وجوه الخير‏.‏

‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم‏}‏ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل‏.‏ ‏{‏مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ مما تقربه عيونهم‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ يقول الله تعالى‏:‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بَلْهَ ما أطلعتهم عليه، أقرؤوا فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ‏"‏ وقرأ حمزة ويعقوب ‏{‏أُخْفِىَ لَهُم‏}‏ على أنه مضارع أخفيت، وقروء نخفي وأخفي الفاعل للكل هو الله، وقرأت ‏{‏أَعْيُنِ‏}‏ لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة و‏{‏مَا‏}‏ موصوله أو استفهامية معلق عنها الفعل‏.‏ ‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي جزوا جزاء أو أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلو شأنه‏.‏ وقيل هذا القوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم‏.‏

‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً‏}‏ خارجاً عن الإِيمان ‏{‏لاَّ يَسْتَوُونَ‏}‏ في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح والجمع للحمل على المعنى‏.‏

‏{‏أَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جنات المأوى‏}‏ فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة‏.‏ وقيل المأوى جنة من الجنان‏.‏ ‏{‏نُزُلاً‏}‏ سبق تفسيره في سورة «آل عمران»‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ بسبب أعمالهم أو على أعمالهم‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار‏}‏ مكان جنة المأوى للمؤمنين‏.‏ ‏{‏كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا‏}‏ عبارة عن خلودهم فيها‏.‏ ‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ إهانة لهم وزيادة في غيظهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى‏}‏ عذاب الدنيا يريد ما محنوا به من السنة سبع سنين والقتل والأسر‏.‏ ‏{‏دُونَ العذاب الاكبر‏}‏ عذاب الآخرة‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ لعل من بقي منهم‏.‏ ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ يتوبون عن الكفر‏.‏ روي أن الوليد ابن عقبة فاخر علياً رضي الله عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات‏.‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا‏}‏ فلم يتفكر فيها، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لاستبعاد الإعراض عنها مع فرض وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلاً كما في بيت الحماسة‏.‏

وَلاَ يَكْشِفُ الغُمَاءَ إِلاَّ ابْن حرَّة *** يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورها

‏{‏إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ‏}‏ فكيف ممن كان أظلم من كل ظالم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ كما آتيناك‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ‏}‏ في شك‏.‏ ‏{‏مّن لّقَائِهِ‏}‏ من لقائك الكتاب كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان‏}‏ فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه، أو من لقاء موسى للكتاب أو من لقائك موسى‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ رأيت ليلة أسري بي موسى صلى الله عليه وسلم رجلاً آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة ‏"‏ ‏{‏وجعلناه‏}‏ أي المنزل على موسى‏.‏ ‏{‏هُدًى لّبَنِى إسراءيل‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ‏}‏ الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام‏.‏ ‏{‏بِأَمْرِنَا‏}‏ إياهم به أو بتوفيقنا له‏.‏ ‏{‏لَمَّا صَبَرُواْ‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي ورويس «لَمَّا صَبَرُواْ» أي لصبرهم على الطاعة أو عن الدنيا‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ بئاياتنا يُوقِنُونَ‏}‏ لإمعانهم فيها النظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ يقضي فيميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل‏.‏ ‏{‏فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من أمر الدين‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ الواو للعطف على منوي من جنس المعطوف والفاعل ضمير ما دل عليه‏.‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ القرون‏}‏ أي كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية، أو ضمير الله بدليل القراءة بالنون‏.‏ ‏{‏يَمْشُونَ فِى مساكنهم‏}‏ يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم، وقرئ «يَمْشُونَ» بالتشديد‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ سماع تدبر واتعاظ‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الجرز‏}‏ التي جرز نباتها أي قطع وأزيل لا التي لا تنبت لقوله‏:‏ ‏{‏فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً‏}‏ وقيل اسم موضع باليمن‏.‏ ‏{‏تَأْكُلُ مِنْهُ‏}‏ من الزرع‏.‏ ‏{‏أنعامهم‏}‏ كالتين والورق‏.‏ ‏{‏وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ كالحب والثمر‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ فيستدلون به على كمال قدرته وفضله‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح‏}‏ النصر أو الفصل بالحكومة من قوله ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا‏}‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في الوعد به‏.‏

‏{‏قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ وهو يوم القيامة فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم‏.‏ وقيل يوم بدر أو يوم فتح مكة، والمراد بالذين كفروا المقتولون منهم فيه فإنهم لا ينفعهم إيمانهم حال القتل ولا يمهلون وانطباقه جواباً على سؤالهم من حيث المعنى باعتبار ما عرف من غرضهم، فإنهم لما أرادوا به الاستعجال تكذيباً واستهزاء أجيبوا بما يمنع الاستعجال‏.‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ولا تبال بتكذيبهم، وقيل هو منسوخ بآية السيف‏.‏ ‏{‏وانتظر‏}‏ النصرة عليهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ‏}‏ الغلبة عليك، وقرئ بالفتح على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو أن الملائكة ينتظرونه‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ ‏"‏ ألم تنزيل، تبارك الذي بيده الملك أعطي من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر ‏"‏ وعنه من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام

سورة الأحزاب

مدينة وآيها ثلاث وسبعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها النبى اتق الله‏}‏ ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيماً له وتفخيماً لشأن التقوى، والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعاً له عما نهى عنه بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين‏}‏ فيما يعود بوهن في الدين‏.‏ روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام معهم ابن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له‏:‏ ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بالمصالح والمفاسد‏.‏ ‏{‏حَكِيماً‏}‏ لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة‏.‏

‏{‏واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ‏}‏ كالنهي عن طاعتهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ فموحٍ إليك ما تصلح به أعمالك ويغني عن الاستماع إلى الكفرة، وقرأ أبو عمرو بالياء على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين أي أن الله خبير بمكايدهم فيدفعها عنك‏.‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ وكل أمرك إلى تدبيره‏.‏ ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ موكولاً إليه الأمور كلها‏.‏

‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ‏}‏ أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإِنساني أولاً ومنبع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد‏.‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏ وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل، والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبي معمر أو جميل ابن أسد الفهري ذو القلبين، والزوجة المظاهر عنها كالأم ودعي الرجل ابنه ولذلك كانوا يقولون لزيد بن حارثة الكلبي عتيق رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن محمد، أو المراد نفي الأمومة والبنوة عن المظاهر عنها والمتبنى ونفي القلبين لتمهيد أصل يحملان عليه‏.‏ والمعنى كما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلاً لكل القوى وغير أصل لم يجعل الزوجة والدعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أمه وابنه اللذين بينهما وبينه ولادة، وقرأ أبو عمرو «اللاي» بالياء وحده على أن أصله اللاء بهمزة فخففت وعن الحجازيين مثله، وعنهما وعن يعقوب بالهمز وحده، وأصل ‏{‏تظاهرون‏}‏ تتظاهرون فأدغمت التاء الثانية في الظاء‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏تظاهرون‏}‏ بالإدغام وحمزة والكسائي بالحذف وعاصم ‏{‏تظاهرون‏}‏ من ظاهر، وقرئ «تظهرون» من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد وتظهرون من الظهور‏.‏ ومعنى الظهار‏:‏ أن يقول للزوجة أنت علي كظهر أمي، مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقاً في الجاهلية وهو في الإِسلام يقتضي الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدي آلى بها، وهو بمعنى حلف وذكر الظهر للكناية عن البطن الذي هو عموده فإن ذكره يقارب ذكر الفرج، أو للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء، وأدعياء جمع دعي على الشذوذ وكأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى ما ذكر أو إلى الأخير‏.‏ ‏{‏قَوْلُكُم بأفواهكم‏}‏ لا حقيقة له في الأعيان كقول الهاذي‏.‏ ‏{‏والله يَقُولُ الحق‏}‏ ما له حقيقة عينية مطابقة له‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يَهْدِى السبيل‏}‏ سبيل الحق‏.‏

‏{‏ادعوهم لآبَائِهِمْ‏}‏ أنسبوهم إليهم، وهو أفراد للمقصود من أقواله الحقة وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله‏}‏ تعليل له، والضمير لمصدر ‏{‏ادعوهم‏}‏ و‏{‏أَقْسَطُ‏}‏ افعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقاً من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ في الصدق‏.‏ ‏{‏فَإِن لم تعلموا آباءهم‏}‏ فتنسبوهم إليهم‏.‏ ‏{‏فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين‏}‏ أي فهم إخوانكم في الدين‏.‏ ‏{‏ومواليكم‏}‏ وأولياؤكم فيه فقولوا هذا أخي ومولاي بهذا التأويل‏.‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ‏}‏ ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده على النسيان أو سبق اللسان‏.‏ ‏{‏ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم أو ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ لعفوه عن المخطئ‏.‏ واعلم أن التبني لا عبرة به عندنا وعند أبي حنيفة يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الذي يمكن إلحاقه به‏.‏

‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس، فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها‏.‏ روي‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نتسأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت‏.‏ وقرئ «وهو أب لهم» أي في الدين فإن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوة‏.‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكما الأجنبيات، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ لسنا أمهات النساء‏.‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأرحام‏}‏ وذوو القرابات‏.‏ ‏{‏بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ‏}‏ في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإِسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين‏.‏ ‏{‏فِى كتاب الله‏}‏ في اللوح أو فيما أنزل، وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرضط الله‏.‏ ‏{‏مِنَ المؤمنين والمهاجرين‏}‏ بيان لأولي الأرحام، أو صلة لأولي أي أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً‏}‏ استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أومنقطع ‏{‏وَكَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا‏}‏ كان ما ذكر في الآيتين ثابتاً في اللوح أو القرآن‏.‏

وقيل في التوراة‏.‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ‏}‏ مقدر باذكر وميثاقهم عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم‏.‏ ‏{‏وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيماً له وتكريماً لشأنه‏.‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ عظيم الشأن أو مؤكداً باليمين، والتكرير لبيان هذا الوصف تعظيماً له‏.‏

‏{‏لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ‏}‏ أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم، أو تصديقهم إياهم تبكيتاً لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق، أو المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم‏.‏ ‏{‏وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ عطف على ‏{‏أَخَذْنَا‏}‏ من جهة أن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإِثابة المؤمنين، أو على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ‏}‏ يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثني عشر ألفاً‏.‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً‏}‏ ريح الصبا‏.‏ ‏{‏وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ الملائكة‏.‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام لما سمع بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى بعث الله عليهم ريحاً باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبرت الملائكة في جوانب العسكر، فقال طليحة بن خويلد الأسدي أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من حفر الخندق، وقرأ البصريان بالياء أي بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة‏.‏ ‏{‏بَصِيراً‏}‏ رائياً‏.‏

‏{‏إِذْ جاءُوكم‏}‏ بدل من إذا جاءتكم‏.‏ ‏{‏عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان‏.‏ ‏{‏وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش‏.‏ ‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار‏}‏ مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصاً‏.‏ ‏{‏وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر‏}‏ رعباً فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب‏.‏ ‏{‏وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏}‏ الأنواع من الظن فظن المخلصون الثبت القلوب أن الله منجز وعده في إعلاء دينه، أو ممتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكي عنهم، والألف مزيدة في أمثاله تشبيهاً للفواصل بالقوافي وقد أجرى نافع وابن عامر وأبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف، ولم يزدها أبو عمرو وحمزة ويعقوب مطلقاً وهو القياس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون‏}‏ اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل‏.‏ ‏{‏وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً‏}‏ من شدة الفزع وقرئ «زِلْزَالاً» بالفتح‏.‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ضعف اعتقاد‏.‏ ‏{‏مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ‏}‏ من الظفر وإعلاء الدين‏.‏ ‏{‏إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ وعدا باطلاً‏.‏ قيل قائله معتب بن قشير قال يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً ما هذا إلا وعد غرور‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ يعني أوس بن قيظي وأتباعه‏.‏ ‏{‏ياأهل يَثْرِبَ‏}‏ أهل المدينة، وقيل هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها‏.‏ ‏{‏لاَ مُقَامَ‏}‏ لا موضع قيام‏.‏ ‏{‏لَكُمْ‏}‏ ها هنا، وقرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام‏.‏ ‏{‏فارجعوا‏}‏ إلى منازلكم هاربين، وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفاراً ليمكنكم المقام بها‏.‏ ‏{‏وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى‏}‏ للرجوع‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ‏}‏ غير حصينة وأصلها الخلل، ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرئ بها‏.‏ ‏{‏وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ‏}‏ بل هي حصينة‏.‏ ‏{‏إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً‏}‏ أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال‏.‏

‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ دخلت المدينة أو بيوتهم‏.‏ ‏{‏مّنْ أَقْطَارِهَا‏}‏ من جوانبها وحذف الفاعل للإِيماء بأن دخول هؤلاء المتحزبين عليهم ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة‏}‏ الردة ومقاتلة المسلمين‏.‏ ‏{‏لآتَوْهَا‏}‏ لأعطوها، وقرأ الحجازيان بالقصر بمعنى لجاءوها وفعلوها‏.‏ ‏{‏وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا‏}‏ بالفتنة أو بإعطائها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ يَسِيراً‏}‏ ريثما يكون السؤال والجواب، وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد تمام الارتداد إلا يسيراً‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار‏}‏ يعني بني حارثة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين فشلوا ثم تابوا أن لا يعودوا لمثله‏.‏ ‏{‏وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً‏}‏ عن الوفاء به مجازى عليه‏.‏

‏{‏قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل‏}‏ فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنف، أو قتل في وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم‏.‏ ‏{‏وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي وإن نفعكم الفرار مثلا فمنعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعاً، أو زماناً قليلاً‏.‏

‏{‏قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً‏}‏ أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله‏:‏

متقلداً سيفاً ورمحاً *** أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً‏}‏ ينفعهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَصِيراً‏}‏ يدفع الضر عنهم‏.‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ‏}‏ المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون‏.‏ ‏{‏والقائلين لإخوانهم‏}‏ من ساكني المدينة‏.‏ ‏{‏هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏ قربوا أنفسكم إلينا وقد ذكر أصله في «الأنعام»‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ إلا إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً، فإنهم يعتذرون ويتثبطون ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلا قليلاً كقوله ‏{‏مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وقيل إنه من تتمة كلامهم ومعناه لا يأتي أصحاب محمد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلا‏.‏

‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ‏}‏ بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر أو الغنيمة، جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل ‏{‏يَأْتُونَ‏}‏ أو ‏{‏المعوقين‏}‏ أو على الذم‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ‏}‏ في أحداقهم‏.‏ ‏{‏كالذى يغشى عَلَيْهِ‏}‏ كنظر المغشي عليه أو كدوران عينيه، أو مشبهين به أو مشبهة بعينه‏.‏ ‏{‏مّنَ الموت‏}‏ من معالجة سكرات الموت خوفاً ولواذاً بك‏.‏ ‏{‏فَإِذَا ذَهَبَ الخوف‏}‏ وحيزت الغنائم‏.‏ ‏{‏سَلَقُوكُم‏}‏ ضربوكم‏.‏ ‏{‏بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏ ذربة يطلبون الغنيمة، والسلق البسط بقهر باليد أو اللسان‏.‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَى الخير‏}‏ نصب على الحال أو الذم، ويؤيده قراءة الرفع وليس بتكرير لأن كلا منهما مقيد من وجه‏.‏ ‏{‏أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ‏}‏ إخلاصاً‏.‏ ‏{‏فَأَحْبَطَ الله أعمالهم‏}‏ فأظهر بطلانها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم‏.‏ ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ الإِحباط‏.‏ ‏{‏عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ هيناً لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه عنه‏.‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ‏}‏ أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة‏.‏ ‏{‏وَإِن يَأْتِ الأحزاب‏}‏ كرة ثانية‏.‏ ‏{‏يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الأعراب‏}‏ تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب‏.‏ ‏{‏يُسْأَلُونَ‏}‏ كل قادم من جانب المدينة‏.‏ ‏{‏عَنْ أَنبَائِكُمْ‏}‏ عما جرى عليكم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ‏}‏ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال‏.‏ ‏{‏مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ رياء وخوفاً من التعيير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد، أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديداً أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد، وقرأ عاصم بضم الهمزة وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر‏}‏ أي ثواب الله أو لقاءه ونعيم الآخرة، أو أيام الله واليوم الآخر خصوصاً‏.‏ وقيل هو كقولك أرجو زيداً وفضله، فإن ‏{‏اليوم الآخر‏}‏ داخل فيها بحسب الحكم والرجاء يحتمل الأمل والخوف و‏{‏لِمَنْ‏}‏ كان صلة لحسنة أو صفة لها‏.‏ وقيل بدل من ‏{‏لَكُمْ‏}‏ والأكثر على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه‏.‏ ‏{‏وَذَكَرَ الله كَثِيراً‏}‏ وقرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة، فإن المؤتسي بالرسول من كان كذلك‏.‏

‏{‏وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ‏}‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم» وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر» وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الراء وفتح الهمزة‏.‏ ‏{‏وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ‏}‏ ظهر صدق خبر الله ورسوله أو صدقاً في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء، وإظهار الاسم للتعظيم‏.‏ ‏{‏وَمَا زَادَهُمْ‏}‏ فيه ضمير ‏{‏لَمَّا رَأَوُاْ‏}‏، أو الخطب أو البلاء‏.‏ ‏{‏إِلاَّ إِيمَانًا‏}‏ بالله ومواعيده‏.‏ ‏{‏وَتَسْلِيماً‏}‏ لأوامره ومقاديره‏.‏

‏{‏مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ‏}‏ من الثبات مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمقاتلة لإِعلاء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق، فإن المعاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ‏}‏ نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، والنحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ‏}‏ الشهادة كعثمان وطلحة رضي الله عنهما‏.‏ ‏{‏وَمَا بَدَّلُواْ‏}‏ العهد ولا غيروه‏.‏ ‏{‏تَبْدِيلاً‏}‏ شيئاً من التبديل‏.‏ روي أن طلحة ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أوجب طلحة» وفيه تعريض لأهل النفاق ومرض القلب بالتبديل، وقوله‏:‏

‏{‏لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ المنافقين إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ تعليل للمنطوق والمعرض به، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى، والتوبة عليهم مشروطة بتوبتهم أو المراد بها التوفيق للتوبة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ لمن تاب‏.‏

‏{‏وَرَدَّ اللهُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني الأحزاب‏.‏

‏{‏بِغَيْظِهِمْ‏}‏ متغيظين‏.‏ ‏{‏لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً‏}‏ غير ظافرين وهما حالان بتداخل أو تعاقب‏.‏ ‏{‏وَكَفَى الله المؤمنين القتال‏}‏ بالريح والملائكة‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله قَوِيّاً‏}‏ على إحداث ما يريده‏.‏ ‏{‏عَزِيزاً‏}‏ غالباً على كل شيء‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم‏}‏ ظاهروا الأحزاب‏.‏ ‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ يعني قريظة‏.‏ ‏{‏مِن صَيَاصِيهِمْ‏}‏ من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبى وشوكة الديك‏.‏ ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ الخوف وقرئ بالضم‏.‏ ‏{‏فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً‏}‏ وقرئ بضم السين روي‏:‏ «أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب فقال‏:‏ أتنزع لأمتك والملائكة لم يضعوا السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم إحدى وعشرين أو خمساً وعشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم‏:‏ تنزلون على حكمي فأبوا فقال‏:‏ على حكم سعد بن معاذ فرضوا به، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة»

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 33‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ‏}‏ مزارعهم‏.‏ ‏{‏وديارهم‏}‏ حصونهم‏.‏ ‏{‏وأموالهم‏}‏ نقودهم ومواشيهم وأثاثهم‏.‏ ‏"‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال‏:‏ إنكم في منازلكم وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال‏:‏ لا إنما جعلت هذه لي طمعة ‏"‏ ‏{‏وَأَرْضاً لَّمْ‏}‏ كفارس والروم، وقيل خيبر وقيل كل أرض تفتح إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً‏}‏ فيقدر على ذلك‏.‏

‏{‏يا أيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا‏}‏ السعة والتنعم فيها‏.‏ ‏{‏وَزِينَتَهَا‏}‏ زخارفها‏.‏ ‏{‏فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ‏}‏ أعطكن المتعة‏.‏ ‏{‏وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ طلاقاً من غير ضرار وبدعة‏.‏ روي أنهم سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت‏.‏ فبدأ بعائشة رضي الله عنها فخيرها فاختارت الله ورسوله، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر الله لهن ذلك فأنزل ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ‏}‏ وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا وجعلها قسيماً لإِرادتهن الرسول يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم تطلق خلافاً لزيد والحسن ومالك وإحدى الروايتين عن علي، ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها «خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه»‏.‏ ولم يعده طلاقاً وتقديم للتمتع على التسريح المسبب عنه من الكرم وحسن الخلق‏.‏ قيل لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها فإنه طلقة رجعية عندنا وبائنة عند الحنفية، واختلف في وجوبه للمدخول بها وليس فيه ما يدل عليه، وقرئ «أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ» بالرفع على الاستئناف‏.‏

‏{‏وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ يستحقر دونه الدنيا وزينتها ومن للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات‏.‏

‏{‏يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة‏}‏ بكبيرة‏.‏ ‏{‏مُّبَيّنَةٍ‏}‏ ظاهر قبحها على قراءة ابن كثير وأبي بكر والباقون بكسر الياء‏.‏ ‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ‏}‏ ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه، لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم وقرأ البصريان «يضعف» على البناء للمفعول، ورفع ‏{‏العذاب‏}‏ وابن كثير وابن عامر «نضعف» بالنون وبناء الفاعل ونصب «العذاب»‏.‏ ‏{‏وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي وكيف وهو سببه‏.‏

‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ‏}‏ ومن يدم على الطاعة‏.‏ ‏{‏لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ولعل ذكر الله للتعظيم أو لقوله‏:‏ ‏{‏وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ‏}‏ مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضا النبي عليه الصلاة والسلام بالقناعة وحسن المعاشرة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «ويعمل» بالياء حملاً على لفظ «من ويؤتها» على أن فيه ضمير اسم الله‏.‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً‏}‏ في الجنة زيادة على أجرها‏.‏

‏{‏يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء‏}‏ أصل أحد وحد بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل‏.‏

‏{‏إِنِ اتقيتن‏}‏ مخالفة حكم الله ورضا رسوله‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول‏}‏ فلا تجئن بقولكن خاضعاً ليناً مثل قول المريبات‏.‏ ‏{‏فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ فجور وقرئ بالجزم عطفاً على محل فعل النهي على أنه نهى مريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول‏.‏ ‏{‏وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ حسناً بعيداً عن الريبة‏.‏

‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ من وقر يقر وقاراً أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغني عن همزة الوصل ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه، ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَبَرَّجْنَ‏}‏ ولا تتبخترن في مشيكن‏.‏ ‏{‏تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى‏}‏ تبرجاً مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة، وقيل هي ما بين آدم ونوح، وقيل الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام كانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإِسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإِسلام ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء رضي الله عنه «إن فيك جاهلية، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر» ‏{‏وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس‏}‏ الذنب المدنس لعرضكم وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عمم الحكم‏.‏ ‏{‏أَهْلَ البيت‏}‏ نصب على النداء أو المدح‏.‏ ‏{‏وَيُطَهّرَكُمْ‏}‏ عن المعاصي‏.‏ ‏{‏تَطْهِيراً‏}‏ واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطيهر للتنفير عنها، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهم لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت‏}‏» والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 41‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة‏}‏ من الكتاب الجامع بين الأمرين وهو تذكير بما أنعم الله عليهم من حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإِيمان والحرص على الطاعة حثاً على الانتهاء والائتمار فيما كلفن به‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً‏}‏ يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك خيركن ووعظكن، أو يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح أن يكون أهل بيته‏.‏

‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏}‏ الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله‏.‏ ‏{‏والمؤمنين والمؤمنات‏}‏ المصدقين بما يجب أن يصدق به‏.‏ ‏{‏والقانتين والقانتات‏}‏ المداومين على الطاعة‏.‏ ‏{‏والصادقين والصادقات‏}‏ في القول والعمل ‏{‏والصابرين والصابرات‏}‏ على الطاعات وعن المعاصي‏.‏ ‏{‏والخاشعين والخاشعات‏}‏ المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم‏.‏ ‏{‏والمتصدقين والمتصدقات‏}‏ بما وجب في مالهم‏.‏ ‏{‏والصائمين والصائمات‏}‏ الصوم المفروض‏.‏ ‏{‏والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات‏}‏ عن الحرام‏.‏ ‏{‏والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات‏}‏ بقلوبهم وألسنتهم‏.‏ ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً‏}‏ لما اقترفوا من الصغائر لأنهم مكفرات‏.‏ ‏{‏وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ على طاعتهم، والآية وعد لهن ولأمثالهم على الطاعة والتدرع بهذه الخصال‏.‏ روي‏:‏ أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن‏:‏ يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن بخير فما فينا خير نذكر به فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ لما نزل فيهن ما نزل قال نساء المسلمين فما نزل فينا شيء فنزلت‏:‏ وعطف الاناث على الذكور لاختلاف الجنسين وهو ضروري، وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين فليس بضروري ولذلك ترك في قوله ‏{‏مسلمات مؤمنات‏}‏ وفائدته الدلالة على أن إعداد المعد لهم للجمع بين هذه الصفات‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ ما صح له‏.‏ ‏{‏إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً‏}‏ أي قضى رسول الله، وذكر الله لتعظيم أمره والإِشعار بأن قضاءه قضاء الله، لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله‏.‏ وقيل في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد‏.‏ ‏{‏أَن تَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ أن يختاروا من أمرهم شيئاً بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعاً لاختيار الله ورسوله، والخيرة ما يتخير وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي، وجمع الثاني للتعظيم‏.‏ وقرأ الكوفيون وهشام «يكون» بالياء‏.‏ ‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً‏}‏ بين الانحراف عن الصواب‏.‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ‏}‏ بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لعتقه واختصاصه‏.‏ ‏{‏وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة‏.‏

‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ زينب‏.‏ وذلك‏:‏ أنه ‏"‏ عليه الصلاة والسلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال‏:‏ أريد أن أفارق صاحبتي، فقال‏:‏ ما لك أرابك منها شيء، فقال‏:‏ لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها لشرفها تتعظم علي، فقال له‏:‏ ‏"‏ ‏"‏ أمسك عليك زوجك ‏"‏ ‏{‏واتق الله‏}‏ في أمرها فلا تطلقها ضراراً وتعللاً بتكبرها‏.‏ ‏{‏وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ‏}‏ وهو نكاحها إن طلقها أو إرادة طلاقها‏.‏ ‏{‏وَتَخْشَى الناس‏}‏ تعييرهم إياك به‏.‏ ‏{‏والله أَحَقُّ أَن تخشاه‏}‏ إن كان فيه ما يخشى، والواو للحال، وليست المعاتبة على الإِخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً‏}‏ حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها‏.‏ ‏{‏زوجناكها‏}‏ وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك‏.‏ وقرئ «زوجتكها»، والمعنى أنه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد‏.‏ ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن‏.‏ وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه‏.‏ ‏{‏لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً‏}‏ علة للتزويج، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحدة إلا ما خصه الدليل ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله‏}‏ أمره الذي يريده ‏{‏مَفْعُولاً‏}‏ مكوناً لا محالة كما كان تزويج زينب ‏{‏مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ‏}‏ قسم له وقدر من قولهم فرض له في الديوان، ومنه فروض العسكر لأرزاقهم‏.‏ ‏{‏سُنَّةَ الله‏}‏ سن ذلك سنة‏.‏ ‏{‏فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ‏}‏ من الأنبياء، وهو نفي الحرج عنهم فيما أباح لهم‏.‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏ قضاء مقضياً وحكماً مبتوتاً‏.‏

‏{‏الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله‏}‏ صفة للذين خلوا أو مدح لهم منصوب أو مرفوع، وقرئ «رسالة الله»‏.‏ ‏{‏وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله‏}‏ تعريض بعد تصريح‏.‏ ‏{‏وكفى بالله حَسِيباً‏}‏ كافياً للمخاوف أو محاسباً فينبغي أن لا يخشى إلا منه‏.‏

‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ على الحقيقة فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها، ولا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ولو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم‏.‏ ‏{‏ولكن رَّسُولَ الله‏}‏ وكل رسول أبو أمته لا مطلقاً بل من حيث إنه شفيق ناصح لهم، واجب التوقير والطاعة عليهم وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة‏.‏

وقرئ ‏{‏رَسُولُ الله‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ولكن بالتشديد على حذف الخبر أي ‏{‏ولكن رَّسُولَ الله‏}‏ من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر‏.‏ ‏{‏وَخَاتَمَ النبيين‏}‏ وآخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبياً «كما قال عليه الصلاة والسلام في إبراهيم حين توفى‏:‏ لو عاش لكان نبياً» ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه، مع أن المراد منه أنه آخر من نبئ‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ عَلِيماً‏}‏ فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي شأنه‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً‏}‏ يغلب الأوقات ويعم الأنواع بما هو أهله من التقديس والتحميد والتهليل والتمجيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 54‏]‏

‏{‏وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ أول النهار وآخره خصوصاً، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات لكونهما مشهودين كأفراد التسبيح من جملة الأذكار لأنه العمدة فيها‏.‏ وقيل الفعلان موجهان إليهما‏.‏ وقيل المراد بالتسبيح الصلاة‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُصَلّي عَلَيْكُمْ‏}‏ بالرحمة‏.‏ ‏{‏وملائكته‏}‏ بالاستغفار لكم والاهتمام بما يصلحكم، والمراد بالصلاة المشترك وهو العناية بصلاح أمركم وظهور شرفكم مستعار من الصلو‏.‏ وقيل الترحم والانعطاف المعنوي مأخوذ من الصلاة المشتملة على الانعطاف الصوري الذي هو الركوع والسجود، واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليه سيما وهو السبب للرحمة من حيث إنهم مجابو الدعوة‏.‏ ‏{‏لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ من ظلمات الكفر والمعصية إلى نوري الإِيمان والطاعة‏.‏ ‏{‏وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً‏}‏ حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإنافة قدرهم واستعمل في ذلك ملائكته المقربين‏.‏

‏{‏تَحِيَّتُهُمْ‏}‏ من إضافة المصدر إلى المفعول أو يحيون‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ‏}‏ يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبور، أو دخول الجنة‏.‏ ‏{‏سلام‏}‏ إخبار بالسلامة عن كل مكروه وآفة‏.‏ ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً‏}‏ هي الجنة، ولعل اختلاف النظم لمحافظة الفواصل والمبالغة فيما هو أهم‏.‏

‏{‏يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً‏}‏ على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم وهو حال مقدرة‏.‏ ‏{‏وَمُبَشّراً وَنَذِيراً‏}‏‏.‏

‏{‏وَدَاعِياً إِلَى الله‏}‏ إلى الإِقرار به وبتوحيده وما يجب الإِيمان به من صفاته‏.‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بتيسيره وأطلق له من حيث أنه من أسبابه وقيد به الدعوة إيذاناً بأنه أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة من جناب قدسه‏.‏ ‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ يستضاء به عن ظلمات الجهالات ويقتبس من نوره أنوار البصائر‏.‏

‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏ على سائر الأمم أو على جزاء أعمالهم، ولعله معطوف على محذوف مثل فراقب أحوال أمتك‏.‏

‏{‏وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين‏}‏ تهييج له على ما هو عليه من مخالفتهم‏.‏ ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ إيذاءهم إياك ولا تحتفل به، أو إيذاءك إياهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم، ولذلك قيل إنه منسوخ‏.‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ فإنه يكفيكهم‏.‏ ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ موكولاً إليه الأمر في الأحوال كلها، ولعله سبحانه وتعالى لما وصفه بخمس صفات قابل كلا منها بخطاب يناسبه، فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لأن ما بعده كالتفصيل له، وقابل المبشر بالأمر والسراج المنير بالاكتفاء به فإن من أناره الله برهاناً على جميع خلقه كان حقيقاً بأن يكتفى به عن غيره‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ تجامعوهن، وقرأ حمزة والكسائي بألف وضم التاء‏.‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ‏}‏ أيام يتربصن فيها بأنفسهن‏.‏ ‏{‏تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ تستوفون عددها من عددت الدراهم فاعتدها كقولك‏:‏ كلته فاكتاله، أو تعدونها‏.‏ والإِسناد إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج كما أشعر به فما لكم، وعن ابن كثير «تَعْتَدُّونَهَا» مخففاً على إبدال إحدى الدالين بالياء أو على أنه من الاعتداء بمعنى تعتدون فيها، وظاهره يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخييراً لنطفته، وفائدة ثم إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخي الطلاق ريثما تمكن الإِصابة كما يؤثر في النسب يؤثر في العدة‏.‏

‏{‏فَمَتّعُوهُنَّ‏}‏ أي إن لم يكن مفروضاً لها فإن الواجب للمفروض لها نصف المفروض دون المتعة ويجوز أن يؤول التمتيع بما يعمهما، أو الأمر بالمشترك بين الوجوب والندب فإن المتعة سنة للمفروض لها‏.‏ ‏{‏وَسَرّحُوهُنَّ‏}‏ أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة‏.‏ ‏{‏سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ من غير ضرار ولا منع حق، ولا يجوز تفسيره بالطلاق السني لأنه مرتب على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن‏.‏

‏{‏يا أيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ مهورهن لأن المهر أجر على البضع، وتقييد الإِحلال له بإعطائها معجلة لا لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ‏}‏ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها، وتقييد القرائب بكونها مهاجرات معه في قوله‏:‏ ‏{‏وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ‏}‏ ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة ويعضده قول أم هانئ بنت أبي طالب‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء‏.‏ ‏{‏وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ‏}‏ نصب بفعل يفسره ما قبله أو عطف على ما سبق، ولا يدفعه التقييد بأن التي للاستقبال فإن المعنى بالإحلال والإِعلام بالحل أي‏:‏ أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً إن اتفق ولذلك نكرها‏.‏ واختلف في اتفاق ذلك والقائل به ذكر أربعاً‏:‏ ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم‏.‏ وقرئ ‏{‏أَن‏}‏ بالفتح أي لأن وهبت أو مدة أن وهبت كقولك‏:‏ اجلس ما دام زيد جالساً‏.‏ ‏{‏إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا‏}‏ شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم مكرراً، ثم الرجوع إليه في قوله‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لأجله‏.‏ واحتج به أصحابنا على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ، والاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه، ‏{‏وخَالِصَةً‏}‏ مصدر مؤكد أي خلص إحلالها أو إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك، أو حال من الضمير في ‏{‏وَهَبَتْ‏}‏ أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة‏.‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم‏}‏ من شرائط العقد ووجوب القسم والمهر بالوطء حيث لم يسم‏.‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ من توسيع الأمر فيها أنه كيف ينبغي أن يفرض عليهم، والجملة اعتراض بين قوله‏:‏ ‏{‏لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ ومتعلقه وهو ‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ للدلالة على أن الفرق بينه وبين ‏{‏المؤمنين‏}‏ في نحو ذلك لا لمجرد قصد التوسيع عليه، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة وبالعكس أخرى‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ لما يعسر التحرز عنه‏.‏ ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بالتوسعة في مظان الحرج‏.‏

‏{‏تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ‏}‏ تؤخرها وتترك مضاجعتها‏.‏ ‏{‏وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ‏}‏ وتضم إليك من تشاء وتضاجعها، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائيي وحفص «تُرْجِى» بالياء والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏وَمَنِ ابتغيت‏}‏ طلبت‏.‏ ‏{‏مِمَّنْ عَزَلْتَ‏}‏ طلقت بالرجعة‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ‏}‏ في شيء من ذلك‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ‏}‏ ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً، لأن حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهم، وقرئ «تَقَرَّ» بضم التاء و‏{‏أَعْيُنُهُنَّ‏}‏ بالنصب و«تَقَرَّ» بالبناء للمفعول و«كُلُّهُنَّ» تأكيد نون ‏{‏يرضين‏}‏، وقرئ بالنصب تأكيداً لهن‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ‏}‏ فاجتهدوا في إحسانه‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بذات الصدور‏.‏ ‏{‏حَلِيماً‏}‏ لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى‏.‏

‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء‏}‏ بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي، وقرأ البصريان بالتاء‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ‏}‏ من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا، أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏ فتطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة لتأكيد الاستغراق‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ‏}‏ حسن الأزواج المستبدلة، وهو حال من فاعل ‏{‏تُبَدَّلُ‏}‏ دون مفعوله وهو ‏{‏مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏ لتوغله في التنكير، وتقديره مفروضاً إعجابك بهن واختلف في أن الآية محكمة أو منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ‏}‏ على المعنى الثاني فإنه وإن تقدمها قراءة فهو مسبوق بها نزولاً‏.‏ وقيل المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي نص على إحلالهن لك ولا أن تبدل بهن أزواجاً من أجناس أخر‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ‏}‏ استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإِماء، وقيل منقطع‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ رَّقِيباً‏}‏ فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذوناً لكم‏.‏ ‏{‏إلى طَعَامٍ‏}‏ متعلق ب ‏{‏يُؤْذَنَ‏}‏ لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ ناظرين إناه‏}‏ غير منتظرين وقته، أو إدراكه حال من فاعل ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ‏}‏ أو المجرور في ‏{‏لَكُمْ‏}‏‏.‏ وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جارياً على غير من هو له بلا إبراز الضمير، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك‏.‏ ‏{‏وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا‏}‏ تفرقوا ولا تمكثوا، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإِدراكه، مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإِذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ‏}‏ لحديث بعضكم بعضاً، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ‏{‏ناظرين‏}‏ أو مقدر بفعل أي‏:‏ ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكُمْ‏}‏ اللبث‏.‏ ‏{‏كَانَ يُؤْذِي النبي‏}‏ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه‏.‏ ‏{‏فَيَسْتَحِي مّنكُمْ‏}‏ من إخراجكم بقوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَسْتَحْىيِي مِنَ الحق‏}‏ يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج، وقرئ «لاَ يَسْتَحْىِ» بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء‏.‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا‏}‏ شيئاً ينتفع به‏.‏ ‏{‏فاسألوهن‏}‏ المتاع‏.‏ ‏{‏مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ ستر‏.‏ روي «أن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت»‏.‏ وقيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت‏.‏ ‏{‏ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ‏}‏ من الخواطر النفسانية الشيطانية‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ‏}‏ وما صح لكم‏.‏ ‏{‏أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله‏}‏ أن تفعلوا ما يكرهه‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً‏}‏ من بعد وفاته أو فراقه، وخص التي لم يدخل بها، لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكُمْ‏}‏ يعني إيذاءه ونكاح نسائه‏.‏ ‏{‏كَانَ عِندَ الله عَظِيماً‏}‏ ذنباً عظيماً، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حياً وميتاً ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال‏:‏

‏{‏إِن تُبْدُواْ شَيْئاً‏}‏ كنكاحهن على ألسنتكم‏.‏ ‏{‏أَوْ تُخْفُوهْ‏}‏ في صدوركم‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَئ عَلِيماً‏}‏ فيعلم ذلك فيجازيكم به، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد‏.‏